الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قَالَ قَوْمٌ: لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحَبَّ اللَّهُ لذَاته وَلَا رَسُولُهُ لذَاته، وَإنَّمَا الْمَحْبُوبُ الثَّوَابُ منْهُمَا، الْعَائدُ عَلَيْه؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلكَ في كُتُب الْأُصُول، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْعَبْدَ يُحبُّ نَفْسَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنيَّان عَنْ الْعَالَمينَ في ذَلكَ الْغَرَض الْمَسْطُور فيهَا.الْمَسْأَلَةُ السَّابعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {للْمُحْسنَات منْكُنَّ} الْإحْسَانُ في الْفعْل يَكُونُ بوَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: الْإتْيَانُ به عَلَى أَكْمَل الْوُجُوه.وَالثَّاني: التَّمَادي عَلَيْه منْ غَيْر رُجُوعٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ لَهُنَّ مَنْ جَاءَ بهَذَا الْفعْل الْمَطْلُوب منْكُنَّ كَمَا أُمرَ به، وَتَمَادَى عَلَيْه إلَى حَالَة الاحْترَام بالْمُنْيَة، فَعنْدَنَا لَهُ أَفْضَلُ الْجَلَالَة وَالْإكْرَام.وَذَلكَ بَيّنٌ في قَوْله: {وَمَنْ يَقْنُتْ منْكُنَّ للَّه وَرَسُوله} إلَى آخر الْمَعْنَى.فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَهُوَ الْإحْسَانُ.الْمَسْأَلَةُ الثَّامنَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {أَجْرًا عَظيمًا} الْمَعْنَى أَعْطَاهُنَّ اللَّهُ بذَلكَ ثَوَابًا مُتَكَاثرَ الْكَيْفيَّة وَالْكَمّيَّة في الدُّنْيَا وَالْآخرَة، وَذَلكَ بَيّنٌ في قَوْله: {نُؤْتهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْن} وَزيَادَةُ رزْقٍ كَريمٍ مُعَدٍّ لَهُنَّ.أَمَّا ثَوَابُهُنَّ في الْآخرَة فَكَوْنُهُنَّ مَعَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ في دَرَجَته في الْجَنَّة، وَلَا غَايَةَ بَعْدَهَا، وَلَا مَزيَّةَ فَوْقَهَا، وَفي ذَلكَ منْ زيَادَة النَّعيم وَالثَّوَاب عَلَى غَيْرهنَّ؛ فَإنَّ الثَّوَابَ وَالنَّعيمَ عَلَى قَدْر الْمَنْزلَة.وَأَمَّا في الدُّنْيَا فَبثَلَاثَة أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُنَّ أُمَّهَات الْمُؤْمنينَ، تَعْظيمًا لحَقّهنَّ، وَتَأْكيدًا لحُرْمَتهنَّ، وَتَشْريفًا لمَنْزلَتهنَّ.الثَّاني: أَنَّهُ حَظَرَ عَلَيْه طَلَاقَهُنَّ، وَمَنَعَهُ منْ الاسْتبْدَال بهنَّ، فَقَالَ: {لَا يَحلُّ لَكَ النّسَاءُ منْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بهنَّ منْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنُهُنَّ}.وَالْحكْمَةُ أَنَّهُنَّ لَمَّا لَمْ يَخْتَرْنَ عَلَيْه غَيْرَهُ أَمَرَ بمُكَافَأَتهنَّ في التَّمَسُّك بنكَاحهنَّ.فَأَمَّا مَنْعُ الاسْتبْدَال بهنَّ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ هَلْ بَقيَ ذَلكَ مُسْتَدَامًا أَمْ رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى مَا يَأْتي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُثيبُ الْعَبْدَ في الدُّنْيَا بوُجُوهٍ منْ رَحْمَته وَخَيْرَاته، وَلَا يَنْقصُ ذَلكَ منْ ثَوَابه في الْآخرَة.وَقَدْ يُثيبُهُ في الدُّنْيَا، وَيَنْقَصُهُ بذَلكَ في الْآخرَة، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في مَوْضعه.الثَّالثُ: أَنَّ مَنْ قَذَفَهُنَّ حُدَّ حَدَّيْن، كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ.وَالصَّحيحُ أَنَّهُ حَدٌّ وَاحدٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في سُورَة النُّور، منْ أَنَّ عُمُومَ قَوْله: {وَاَلَّذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَرْبَعَة شُهَدَاءَ فَاجْلدُوهُمْ ثَمَانينَ جَلْدَةً}.يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُحْصَنَةٍ، وَلَا يَقْتَضي شَرَفُهُنَّ زيَادَةً في الْحَدّ لَهُنَّ؛ لأَنَّ شَرَفَ الْمَنْزلَة لَا يُؤَثّرُ في الْحُدُود بزيَادَةٍ، وَلَا نَقْصُهَا يُؤَثّرُ في الْحَدّ بنَقْصٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.قَوْله تَعَالَى: {يَا نسَاءَ النَّبيّ مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفَاحشَةٍ مُبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضعْفَيْن وَكَانَ ذَلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا} فيهَا ثَلَاثُ مَسَائلَ:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ في الْفَاحشَة وَتبْيَانهَا بمَا يُغْني عَنْ إعَادَته، وَأَنَّهَا تَنْطَبقُ عَلَى الزّنَا، وَعَلَى سَائر الْمَعَاصي.الْمَسْأَلَةُ الثَّانيَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ جَاءَ منْ نسَاء النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ بفَاحشَةٍ يُضَاعَفُ لَهَا الْعَذَابُ ضعْفَيْن، لشَرَف مَنْزلَتهنَّ، وَفَضْل دَرَجَتهنَّ، وَتَقَدُّمهنَّ عَلَى سَائر النّسَاء أَجْمَعَ؛ وَكَذَلكَ ثَبَتَ في الشَّريعَة أَنَّهُ كُلَّمَا تَضَاعَفَتْ الْحُرُمَاتُ فَهُتكَتْ تَضَاعَفَتْ الْعُقُوبَاتُ؛ وَلذَلكَ ضُوعفَ حَدُّ الْحُرّ عَلَى حَدّ الْعَبْد، وَالثَّيّب عَلَى الْبكْر؛ لزيَادَة الْفَضْل وَالشَّرَف فيهمَا عَلَى قَرينهمَا؛ وَذَلكَ مَشْرُوحٌ في سُورَة بَرَاءَةٌ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالثَةُ: قَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ: إنَّ نسَاءَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ يُحْدَدْنَ حَدَّيْن.وَيَا مَسْرُوقُ، لَقَدْ كُنْت في غنًى عَنْ هَذَا؛ فَإنَّ نسَاءَ النَّبيّ لَا يَأْتينَ أَبَدًا بفَاحشَةٍ تُوجبُ حَدًّا؛ وَلذَلكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبيٍّ قَطُّ؛ وَإنَّمَا خَانَتْ في الْإيمَان وَالطَّاعَة، وَلَوْ أَمْسَكَ النَّاسُ عَمَّا لَا يَنْبَغي بَلْ عَمَّا لَا يَعْني لَكَثُرَ الصَّوَابُ، وَظَهَرَ الْحَقُّ. اهـ.
.قال الماوردي: قوله تعالى: {يَا أَيُّها النَبيُّ قُلْ لأَزْوَاجكَ إن كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا وَزينَتَهَا} الآية.وهذا أمر من الله لنبيه أن يخبر أزواجه، واختلف أهل التأويل في تخييره لهن على قولين:أحدهما: خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن واختيار الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في الطلاق، قاله الحسن وقتادة.الثاني: أنه خيّرهن بين الطلاق أو المقام معه، وهذا قول عائشة رضي الله عنها وعكرمة والشعبي ومقاتل.روى عبد الله بن أبي ثورعن ابن عباس قال: قالت عائشة رضي الله عنها: أنزلت آية التخيير فبدأني أول امرأة من نسائه، فقال: «إنّي ذَاكَرٌ أَمْرًا وَلاَ عَلَيك أَلاَّ تَعْمَلي حَتَّى تَسْتَأْمري أَبُوَيك» وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم تلا آية التخيير فقالت أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل قولي. وقال سعيد بن جبير: إلا الحميرية فإنها اختارت نفسها.واختلف في السبب الذي لأجله خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خمسة أقاويل:أحدها: لأن الله تعالى خير نبيه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، فاختار الآخرة على الدنيا وقال: «اللَّهُمَّ احْيني مسْكينًا وَأمتْني مسْكينًَا وَاحْشْرْني في زُمْرَة المَساكين» فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكنَّ على مثل حاله إن كان اختيارهن مثل ما اختاره. حكاه أبو القاسم الصيمري.الثاني: لأنهن تغايرن عليه، فروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهجرنَنّا شهرًا فدخل عليّ بعد صبحة تسعة وعشرين، فقلت يا رسول الله: ألم تكن حلفت لتهجرننا شهرًا؟ فقال: «إن الشهر هكذا وهكذا وهكذا» ثم خنس الإبهام، ثم قال يا عائشة: «إنّي ذَاكرٌ لَك أَمْرًا وَلاَ عَلَيْك أَن لاَّ تَعْجَلي حَتَّى تَسْتَشيري أَبُويك» وخشي حداثة سني قلت: وما ذاك؟ قال: «أُمرْتُ أَن أَخَيّرَكُنَّ».الثالث: أن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع فكان أوّلهن أم سلمة فسألته سترًا معلمًا، فلم يقدر عليه، وسألته ميمونة حلة يمانية، وسألته زينب بنت جحش ثوبًا مخططًا وهو البرد اليماني، وسألته أم حبيبة ثوبًا سحوليًا، وسألته حفصة ثوبًا من ثياب مصر، وسألته جويرية معجزًا، وسألته سودة قطيفة جبيرية، وكل واحدة منهن طلبت نصيبًا إلاّ عائشة لم تطلب شيئًا، فأمر الله تعالى بتخييرهن، حكاه النقاش.الرابع: لأن أزواجه اجتمعن يومًا فقلن: نريد ما تريد النساء من الحلي والثياب حتى قال بعضهن: لو كنا عن غير النبي صلى الله عليه وسلم إذن لكان لنا شأن وثياب وحلي، فأنزل الله تعالى آية التخيير، حكاه النقاش.الخامس: لأن الله تعالى صان خلوة نبيه فخيرهن على ألا يتزوجن بعده، فلما أجَبْنَ إلى ذلك أمسكهن. قال مقاتل بن حيان: قاله الحسن وقتادة: وكان تحته يومئذ تسع سوى الحميرية، خمس من قريش: عائشة وحفصة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة، هؤلاء خمس من قريش، وكان تحته صفية بنت حيي بن أخطب الحميرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية. فلما اخترنه والصبر معه على ما يلاقيه من شدة ورخاء عوضهن الله تعالى على صبرهن بأمرهن بأمرين:أحدهما: بأن يجعلهن أمهات المؤمنين فقال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أَمَّهَاتُكُمْ} تعظيمًا لحقوقهن وتأكيدًا لحرمتهن.الثاني: أن حظر عليهن طلاقهن والاستبدال بهن فقال: {لاَ يَحلُّ لك النّسَاءُ من بَعد} الآية. فكان تحريم طلاقهن مستدامًا. وأما تحريم التزويج عليهن فقد كان ذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في شدته وقلة مكنته.ثم اختلف الناس بعد سعة الدنيا عليه هل أحل الله له النساء على قولين:أحدهما: أنه كان تحريمه عليهن باقيًا لأن الله تعالى جعله جزاء لصبرهن.الثاني: أن الله تعالى أحل له النساء أن يتزوج عليهن عند اتساع الدنيا عليه، لأن علة التحريم الضيق والشدة، فإذا زالت زال موجبها. قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء، يعني اللاتي حظرن عليه، وقيل إن الناسخ لتحريمهن قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الآية.فأما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يلزمهم تخيير نسائهم فإن خيروهن فقد اختلف الفقهاء في حكمهن على ثلاثة مذاهب.أحدها: إن اخترن الزوج فلا فرقة، وإن اخترن أنفسهن كانت تطليقة رجعية. وهذا قول الزهري وعائشة والشافعي.الثاني: إن اخترن الزوج فهي تطليقة وله الرجعة، وإن اخترن أنفسهن فهي تطليقة بائن والزوج كأحد الخطاب، وهذا قول عليّ رضي الله عنه.الثالث: إن اخترن الزوج فهي تطليقة والزوج كأحد الخطاب، وإن اخترن أنفسهن فهي ثلاث ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره، وهذا قول زيد بن ثابت.قوله عز وجل: {يَا نسَاءَ النَّبيّ مَن يَأْت منكُنَّ بفَاحشةٍ مُّبَيّنَةٍ}.فيها قولان:أحدهما: الزنى، قاله السدي.الثاني: النشوز وسوء الخلق، قاله ابن عباس.{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضعْفَيْن} فيه قولان:أحدهما: أنه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قاله قتادة.الثاني: أنهما عذابان في الدنيا لعظم جرمهن بأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال مقاتل: حدّان في الدنيا غير السرقة.وقال أبو عبيدة والأخفش: الضعفان أن يجعل الواحد ثلاثة، فيكون عليهن ثلاثة حدود لأن ضعف الواحد اثنان فكان ضعْفا الواحد ثلاثة.وقال ابن قتيبة: المراد بالضعف المثل فصار المراد بالضعفين المثلين.وقال آخر: إذا كان ضعف الشيء مثليه وجب بأن يكون ضعفاه أربعة أمثاله.قال سعيد بن جبير: فجعل عذابهن ضعفين، وجعل على من قذفهن الحد ضعفين.{وَكَانَ ذَلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا} أي هينًا. اهـ..قال ابن عطية: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجكَ إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا}.اختلف الناس في سبب هذه الآية، فقالت فرقة سببها غيرة غارتها عائشة، وقال ابن زيد وقع بين أزواجه عليه السلام تغاير ونحوه مما شقي هو به فنزلت الآية بسبب ذلك، ويسر الله له أن يصرف إرادته في أن يؤوي إليه من يشاء، وقال ابن الزبير: نزل ذلك بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أزواجه النفقة وتشططن في تكليفه منها فوق وسعه، وقالت فرقة بل سبب ذلك أنهن طلبن منه ثيابًا وملابس وقالت واحدة: لو كنا عند غير النبي لكان لنا حلي ومتاع. وقال بعض الناس: هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلاوتها عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة وأمر الطلاق مرجًا فلو اخترن أنفسهن نظر هو كيف يسرحهن وليس فيها تخييرهن في الطلاق، لأن التخيير يتضمن ثلاث تطليقات وهو قد قال: {وأسرحكن سراحًا جميلًا} وليس مع بت الطلاق سراح جميل، وقالت فرقة: بل هي آية تخيير فاخترته ولم يعد ذلك طلاقًا وهو قول عائشة أيضًا. واختلف الناس في التخيير إذا اختارت المرأة نفسها، فقال مالك: هي طالق ثلاثًا ولا مناكرة للزوج بخلاف التمليك، وقال غيره هي طلقة بائنة، وقال بعض الصحابة إذا خير الرجل امرأته فاختارته فهي طلقة وهذا مخالف جدًا، وقوله تعالى: {إن كنتن تردن الحياة الدنيا} أي إن كانت عظم همتكن ومطلبكن الدنيا أي التعمق فيها والنيل من نعيمها وزينة الدنيا المال والبنون. {فتعالين} دعاء، و{أمتعكن} معناه أعطيكن المتاع الذي ندب الله تعالى له في قوله: {ومتعوهن} [البقرة: 236]، وأكثر الناس على أنها من المندوب إليه، وقالت فرقة هي واجبة، والسراح الجميل يحتمل أن يكون ما دون بت الطلاق ويحتمل أن يكون في بقاء جميل المتعقد وحسن العشرة وجميل الثناء وإن كان الطلاق باتًا و{أعد} معناه يسر وهيأ والمحسنات الطائعات لله والرسول.قال الفقيه الإمام القاضي: وأزواج النبي صلى اللواتي فيهن تسع، خمس من قريش، عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، وأربع من غير قريش، ميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.قال الفقيه الإمام القاضي: وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من إيلائه الشهر ونزلت عليه هذه الآية بدأ بعائشة وقال: «يا عائشة إني ذاكر لك أمرًا ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك» ثم تلا عليها الآية، فقالت له: وفي أي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت وقد علم أن أبوي لا يأمراني بفراقه ثم تتابع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على مثل قول عائشة فاخترن الله ورسوله رضي الله عنهن.{يَا نسَاءَ النَّبيّ مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفَاحشَةٍ مُبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضعْفَيْن}.قال أبو رافع كان عمر كثيرًا ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح، فكان إذا بلغ {يا نساء النبي} رفع بها صوته، فقيل له فقال أذكرهن العهد. وقرأ الجمهور {من يأت} بالياء وكذلك {من يقنت} حملًا على لفظ {من} وقرأ عمرو بن فائد الجحدري ويعقوب {من تأت} و{من تقنت} بالتاء من فوق حملًا على المعنى، وقال قوم: الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنا واللواط، وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي كل ما يستفحش، وإذا وردت موصوفة بالبيان فهي عقوق الزوج وفساد عشرته، ولذلك يصفها بالبيان إذ لا يمكن سترها، والزنا وغيره هو مما يتستر به ولا يكون مبينًا، ولا محالة أن الوعيد واقع على ما خفي منه وما ظهر. وقالت فرقة بل قوله: {بفاحشة مبينة} تعم جميع المعاصي، وكذلك الفاحشة كيف وردت. ولما كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله تعالى ونواهيه قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب، والإشارة بالفاحشة إلى الزنا وغيره، وقرأ ابن كثير وشبل وعاصم {مبيَّنة} بالفتح في الياء، وقرأ نافع وأبو عمرو وقتادة {مبيَنة} بكسر الياء، وقرأت فرقة {يضعف} بالياء على إسناد الفعل إلى الله تعالى، وقرأ أبو عمرو فيما روى عنه خارجة {نُضاعف} بالنون المضمومة ونصب {العذابَ} وهي قراءة ابن محيصن، وهذه مفاعلة من واحد كطارقت النعل وعاقبت اللص، وقرأ نافع وحمزة والكسائي {يضاعَف} بالياء وفتح العين، {العذابُ} رفعًا، وقرأ أبو عمرو {يضعَّف} على بناء المبالغة بالياء {العذابُ} رفعًا وهي قراءة الحسن وابن كثير وعيسى، وقرأ ابن كثير وابن عامر {نضعّف} بالنون وكسر العين المشددة {العذابَ} نصبًا وهي قراءة الجحدري. وقوله: {ضعفين} معناه أن يكون العذاب عذابين، أي يضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر مثله، وقال أبو عبيدة وأبو عمرو، وفيما حكى الطبرى عنهما، بل يضاعف إليه عذابان مثله فتكون ثلاثة أعذبة وضعفه الطبري، وكذلك هو غير صحيح وإن كان له باللفظ تعلق احتمال ويكون الأجر مرتين ما يفسد هذا القول لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة، والإشارة بذلك إلى تضعيف العذاب. اهـ.
|